تاريخ العود والبخور: جذور تمتد عبر الحضارات
chenxiang
4
2025-08-16 06:20:45

تاريخ العود والبخور: جذور تمتد عبر الحضارات
يعود استخدام العود في الحضارات القديمة إلى أكثر من 3000 عام، حيث تشير النقوش الآشورية والمخطوطات الصينية إلى اعتباره سلعةً ثمينةً ترمز للنقاء الروحي. في شبه الجزيرة العربية، ارتبطت رائحة العود بالكرم وحفلات الاستقبال، بينما حوّل الفرس والبابليون دخانه إلى جزءٍ من طقوس العبادة. تؤكد دراسة أجراها الباحث عبد الله المرزوقي أن تجارة العود شكّلت محورًا رئيسيًا في طرق القوافل بين الهند والجزيرة العربية، مما ساهم في انتشار ثقافة البخور في العالم الإسلامي.
لم يقتصر الأمر على الجانب المادي، بل تحوّل العود إلى رمزٍ ثقافيٍ يعكس الهوية الاجتماعية. ففي كتاب "روائح الشرق"، تشرح الدكتورة ليلى الهاشمي كيف كانت قطع العود تُقدّم كهدايا دبلوماسية بين الملوك، بينما استخدمه الأطباء العرب مثل ابن سينا في تركيب الأدوية لخصائصه المهدئة.
صناعة العود: بين الفن والعلم
تبدأ رحلة تحويل خشب العود إلى بخورٍ عطريٍّ بعملية معقدة تستغرق سنوات. تُستخرج المادة الراتنجية من أشجار "الأكويلاريا" عند إصابتها بفطرياتٍ طبيعية، حيث ينتج الشجر مادةً داكنةً غنيةً بالزيوت. يوضح الخبير علي السديري أن جودة العود تُحدَّد بثلاثة عوامل: عمر الشجرة، وطريقة الاستخراج، ودرجة تركيز الزيوت. تختلف التقنيات بين الغمر المائي البطيء في الهند، والتدخين الحراري في دول الخليج، مما يُنتج نطاقًا واسعًا من الروائح من الحلو الجليدي إلى المركّب الدخاني.
تشهد السنوات الأخيرة تطوراتٍ تكنولوجيةً في صناعة البخور، مثل استخدام أجهزة الاستخلاص بالضغط العالي، لكنّ الصنّاع التقليديين يحذّرون من فقدان الروح الحقيقية للعود. تقول الحرفية أمينة القحطاني: "الآلات تُسرع الإنتاج لكنها تقتل الروح... يد الإنسان هي التي تحفظ أسرار الرائحة".
البخور في الصحة النفسية: أكثر من مجرد رائحة
أظهرت دراسة نُشرت في مجلة "الطب التكميلي" عام 2022 أن استنشاق بخور العود يخفض مستويات الكورتيزول بنسبة 34% خلال 20 دقيقة. يعزو الدكتور خالد الزهراني هذه الظاهرة إلى تفاعل مركّبات السيسكويتربين مع مستقبلات الشم في الدماغ، مما يحفّز إفراز السيروتونين. في المقابل، يحذّر بعض الخبراء من الإفراط في استخدام البخور في الأماكن المغلقة، مشيرين إلى دراسات تربط بين الاحتراق غير الكامل وزيادة الجسيمات الدقيقة في الهواء.
من الناحية النفسية، يرى المعالج ناصر الغامدي أن للعود دورًا في "الارتباط الشرطي الإيجابي"، حيث تربط الذاكرة بين رائحته المميزة ولحظات الاسترخاء. هذا ما يفسر انتشار استخدامه في جلسات التأمل والعلاج بالروائح عبر الثقافات المختلفة.
العود في المناسبات: لغة غير مرئية للتواصل
في المجتمعات العربية، يُعتبر إشعال البخور طقسًا يوميًا للترحيب بالضيوف، لكنه يتحوّل إلى فنٍ متكامل في المناسبات الكبرى. يصف الكاتب محمد آل ثاني في كتابه "طقوس النخبة" كيفية تحضير مزيج خاص من العود والعنبر لعرائس الأسرة المالكة، حيث تُقاس مكانة الحدث بعدد أنواع البخور المستخدمة. تختلف التركيبات بين المناطق: ففي نجد يُفضّلون العود الهندي الثقيل، بينما يميل سكان الحجاز إلى المزيج الخفيف مع الزهور.
أصبحت صناديق العود الفنية تحفةً تزيينيةً بحد ذاتها، حيث تصنع من الخشب المطعم بالصدف أو المعادن النفيسة. تقول مصممة الديكور ريم الفارس: "البخور لم يعد مجرد رائحة... إنه عنصر تصميم يحكي قصة المكان عبر حاسة الشم". هذا التحوّل يعكس فهمًا عميقًا لدور الروائح في تشكيل الهوية الثقافية والذاكرة الجمعية.