تاريخ ثقافة العود: جذوره الضاربة في الحضارات القديمة
chenxiang
8
2025-07-16 08:16:48

تاريخ ثقافة العود: جذوره الضاربة في الحضارات القديمة
يعود استخدام العود إلى أكثر من 3000 عام، حيث ارتبطت رائحته الفريدة بالطقوس الدينية والطب التقليدي في حضارات بلاد ما بين النهرين والصين والهند. تشير المخطوطات السومرية إلى استخدامه في معابد الآلهة، بينما ذكرت كتب الطب الصيني القديم مثل "شينونغ بينتساو" خصائصه العلاجية. في الهند، أصبح العود جزءًا لا يتجزأ من طقوس اليوجا والتأمل، مما يدل على تقاطعه مع مفاهيم تنقية الروح.
أثبتت الاكتشافات الأثرية في سلطنة عُمان واليمن وجود تجارة العود عبر طرق البخور منذ القرن الخامس قبل الميلاد. يقول المؤرخ ابن خلدون في "مقدّمته": "كانت قوافل الجنوب تحمل عبوات الخشب العطري كذهبٍ سائل". هذه الشبكة التجارية لم تكن مجرد نقل بضائع، بل حاضنة لتبادل الثقافات بين الشرق والغرب.
العود في الأديان: جسر بين الأرض والسماء
احتّل العود مكانةً روحيةً فريدة في الإسلام، حيث ورد ذكر الطيب في القرآن الكريم في سورة الإنسان: ﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ﴾. وفقًا لتفسير الطبري، يشير هذا إلى ارتباط الرائحة العطرة بالجنّة. كما أكدت السنّة النبوية على استخدام البخور في المناسبات الدينية، مما عزّز دوره في الحياة اليومية للمسلمين.
في البوذية، يُعتبر حرق العود وسيلةً لتنقية الفضاء أثناء التأمل. تُظهر اللوحات الجدارية في معابد أنغكور وات استخدامه في طقوس التكريس منذ القرن التاسع الميلادي. أما في الهندوسية، فتربطه نصوص الـ"أورفيدا" بتوازن طاقات الجسم، حيث يقول الحكيم شاراكا: "دخان الخشب المعطّر يذيب حجب العقل كالشمس تذيب الضباب".
العود كعملة ثقافية: التأثير الاقتصادي والاجتماعي
شكّل العود محورًا لاقتصاداتٍ إقليميةٍ، حيث تشير سجلات ميناء ظفار العُماني من القرن الثالث عشر إلى أن 40% من صادراته كانت مواد عطرية. أنشأت مدن مثل زبيد اليمنية نظامًا خاصًا لتصنيف جودة الأخشاب العطرية، ما يعكس تطورًا مبكرًا في مفاهيم الجودة والتقييس.
أدّى ندرة العود الجيد إلى ظهور طبقة اجتماعية جديدة من الخبراء المختصين بفحصه، كما ذكر الجغرافي الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق". بلغت قيمته في القرن الخامس عشر حدًا جعل السلطان برقوق المملوكي يهدي قطعًا منه لملوك أوروبا كرمزٍ للسيادة، وفقًا لسجلات المقريزي التاريخية.
إرث العود في العصر الحديث: بين التحديات والحلول
واجهت أشجار العود الطبيعية خطر الانقراض بسبب الاستغلال المفرط، حيث تقدّر منظمة الفاو فقدان 60% من الغابات القديمة في جنوب شرق آسيا منذ 1970. أدّى هذا إلى مبادرات مثل مشروع "عود الأجيال" في إندونيسيا الذي يجمع بين التقنيات الزراعية الحديثة والمعارف التقليدية في الاستدامة.
من ناحية أخرى، أعادت دول الخليج إحياء التراث عبر مؤسسات مثل "بيت العود" في أبوظبي، الذي يدمج بين الحفظ العلمي للتاريخ وتقديم عروضٍ فنيةٍ معاصرة. يقول الباحث سلطان القاسمي: "رائحة العود ليست مجرد عطر، إنها سردٌ حيّ لرحلات الإنسان عبر الزمن". تبقى هذه الثقافة شاهدةً على قدرة العناصر المادية على حمل مضامين روحية وحضارية تتجاوز حدود الجغرافيا.